فصل: باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ

صباحاً 10 :9
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أتاه سهم غرب‏)‏ بتنوين سهم وبفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة هذا هو الأشهر وسيأتي بيان الخلاف فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ قَالَ يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن عبد الله‏)‏ جزم الكلاباذي وتبعه غير واحد بأنه الذهلي، وهو محمد بن يحيى ابن عبد الله، نسبه البخاري إلى جده، ووقع في رواية أبي علي بن السكن ‏"‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء، فإن لم يكن ابن السكن نسبه من قبل نفسه وإلا فما قاله هو المعتمد‏.‏

وقد أخرجه ابن خزيمة في التوحيد من صحيحه عن محمد بن يحيى الذهلي عن حسين بن محمد وهو المروزي بهذا الإسناد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن أم الربيع بنت البراء‏)‏ كذا لجميع رواة البخاري‏.‏

وقال بعد ذلك ‏"‏ وهي أم حارثة بن سراقة ‏"‏ وهذا الثاني هو المعتمد، والأول وهم نبه عليه غير واحد من آخرهم الدمياطي فقال‏:‏ قوله أم الربيع بنت البراء وهم، وإنما هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن عمرو، وقد تقدم ذكر قتل أخيها أنس بن النضر وذكرها في آخر حديثه قريبا وهي أم حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي من بني عدي بن النجار ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما فيمن شهد بدرا، واتفقوا على أنه رماه حبان بكسر المهملة بعدها موحدة ثقيلة ابن العرقة - بفتح المهملة وكسر الراء بعدها قاف - وهو على حوض فأصاب نحره فمات‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في رواية ابن خزيمة المذكورة أن الربيع بنت البراء بحذف ‏"‏ أم ‏"‏ فهذا أشبه بالصواب، لكن ليس في نسب الربيع بنت النضر أحد اسمه البراء فلعله كان فيه ‏"‏ الربيع عمة البراء ‏"‏ فإن البراء بن مالك أخو أنس بن مالك فكل منهما ابن أخيها أنس بن النضر، وقد رواه الترمذي وابن خزيمة أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فقال ‏"‏ عن أنس أن الربيع بنت النضر أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابنها حارثة بن سراقة أصيب يوم بدر ‏"‏ الحديث، ورواه النسائي من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال ‏"‏ انطلق حارثة ابن عمتي فجاءت عمتي أمه ‏"‏ وحكى أبو نعيم الأصبهاني أن الحكم بن عبد الملك رواه عن قتادة كذلك وقال ‏"‏ حارثة بن سراقة ‏"‏ قال ابن الأثير في ‏"‏ جامع الأصول ‏"‏ الذي وقع في كتب النسب والمغازي وأسماء الصحابة أن أم حارثة هي الربيع بنت النضر عمة أنس، وأجاب الكرماني بأنه لا وهم للبخاري لأنه ليس في رواية النسفي إلا الاقتصار على قول أنس ‏(‏أن أم حارثة بن سراقة‏)‏ قال فيحمل على أنه كان في رواية الفربري حاشية لبعض الرواة غير صحيحة فألحقت بالمتن انتهى‏.‏

وقد راجعت أصل النسفي من نسخة ابن عبد البر فوجدتها موافقة لرواية الفربري فالنسخة التي وقعت للكرماني ناقصة وادعاء الزيادة في مثل هذا الكتاب مردود على قائله، والظاهر أن لفظ أم وبنت وهم كما تقدم توجيهه قريبا، والخطب فيه سهل ولا يقدح ذلك في صحة الحديث ولا في ضبط رواته‏.‏

وقد وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة التي ضبط فيها اسم الربيع بنت النضر وهم في اسم ابنها فسماه ‏"‏ الحارث ‏"‏ بدل ‏"‏ حارثة‏"‏‏.‏

وقد روى هذا الحديث أبان عن قتادة فقال‏:‏ أن أم حارثة لم ترد أخرجه أحمد، وكذلك أخرجه من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وسيأتي كذلك في المغازي من طريق حميد عن أنس‏.‏

ثم شرع الكرماني في إبداء احتمالات بعيدة متكلفة لتوجيه الرواية التي في البخاري فقال‏:‏ يحتمل أن يكون للربيع ابن يسمى الربيع يعني بالتخفيف من زوج آخر غير سراقة يسمى البراء وأن يكون ‏"‏ بنت البراء ‏"‏ خبرا لأن وضمير ‏"‏ هي ‏"‏ راجع إلى الربيع وأن يكون ‏"‏ بنت ‏"‏ صفة لوالدة الربيع فأطلق الأم على الجدة تجوزا وأن تكون إضافة الأم إلى الربيع للبيان أي الأم التي هي الربيع وبنت مصحف من عمة، قال‏:‏ وارتكاب بعض هذه التكلفات أولى من تخطئة العدول الأثبات‏.‏

قلت‏:‏ إنما اختار البخاري رواية شيبان على رواية سعيد لتصريح شيبان في روايته بتحديث أنس لقتادة، وللبخاري حرص على مثل ذلك إذا وقعت الرواية عن مدلس أو معاصر، وقد قال هو في تسمية من شهد بدرا ‏"‏ وحارثة ابن الربيع وهو حارثة بن سراقة ‏"‏ فلم يعتمد على ما وقع في رواية شيبان أنه حارثة بن أم الربيع بل جزم بالصواب، والربيع أمه وسراقة أبوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصابه سهم غرب‏)‏ أي لا يعرف راميه، أو لا يعرف من أين أتى، أو جاء على غير قصد من راميه قاله أبو عبيد وغيره‏.‏

والثابت في الرواية بالتنوين وسكون الراء، وأنكره ابن قتيبة فقال‏:‏ كذا تقوله العامة والأجود فتح الراء والإضافة، وحكى الهروي عن ابن زيد‏:‏ أن جاء من حيث لا يعرف فهو بالتنوين والإسكان، وإن عرف راميه لكن أصاب من لم يقصد فهو بالإضافة وفتح الراء، قال‏:‏ وذكره الأزهري بفتح الراء لا غير، وحكى ابن دريد وابن فارس والقزاز وصاحب المنتهى وغيرهم الوجهين مطلقا‏.‏

وقال ابن سيده‏:‏ أصابه سهم غرب وغرب إذا لم يدر من رماه، وقيل إذا أتاه من حيث لا يدري، وقيل إذا قصد غيره فأصابه، قال وقد يوصف به‏.‏

قلت‏:‏ فحصلنا من هذا على أربعة أرجه‏.‏

وقصة حارثة منزلة على الثاني فإن الذي رماه قصد غرته فرماه وحارثة لا يشعر به، وقد وقع في رواية ثابت عند أحمد أن حارثة خرج نظارا، زاد النسائي من هذا الوجه‏:‏ ما خرج لقتال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اجتهدت عليه في البكاء‏)‏ قال الخطابي‏:‏ أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا أي فيؤخذ منه الجواز‏.‏

قلت‏:‏ كان ذلك قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه، فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد، وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر‏.‏

ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة ‏"‏ اجتهدت في الدعاء ‏"‏ بدل قوله ‏"‏ في البكاء ‏"‏ وهو خطأ، ووقع ذلك في بعض النسخ دون بعض، ووقع في رواية حميد الآتية في صفة الجنة من الرقاق وعند النسائي ‏"‏ فإن كان في الجنة لم أبك عليه ‏"‏ وهو دال على صحة الرواية بلفظ البكاء‏.‏

وقال في رواية حميد هذه ‏"‏ وإلا فسترى ما أصنعه ‏"‏ ونحوه في رواية حماد عن ثابت عند أحمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنها جنان في الجنة‏)‏ كذا هنا‏.‏

وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، ‏"‏ أنها جنان في جنة ‏"‏ وفي رواية أبان عند أحمد ‏"‏ أنها جنان كثيرة في جنة ‏"‏ وفي رواية حميد المذكورة ‏"‏ أنها جنان كثيرة ‏"‏ فقط، والضمير في قوله ‏"‏ إنها جنان ‏"‏ يفسره ما بعده، وهو كقولهم‏:‏ هي العرب تقول ما شاءت، والقصد بذلك التفخيم والتعظيم، ومضى الكلام على ‏"‏ الفردوس ‏"‏ قريبا‏.‏

*3*باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا‏)‏ أي فضله، أو الجواب محذوف تقديره فهو المعتبر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عمرو‏)‏ هو ابن مرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي وائل عن أبي موسى‏)‏ في رواية غندر عن شعبة في فرض الخمس ‏"‏ سمعت أبا وائل حدثنا أبا موسى‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاء رجل‏)‏ في رواية غندر المذكورة ‏"‏ قال أعرابي ‏"‏ وهذا يدل على وهم ما وقع عند الطبراني من وجه آخر ‏"‏ عن أبي موسى أنه قال يا رسول الله ‏"‏ فذكره، فإن أبا موسى وإن جاز أن يبهم نفسه لكن لا يصفها بكونه أعرابيا، وهذا الأعرابي يصلح أن يفسر بلاحق بن ضميرة، وحديثه عند أبي موسى المديني في ‏"‏ الصحابة ‏"‏ من طريق عفير بن معدان ‏"‏ سمعت لاحق بن ضميرة الباهلي قال‏:‏ وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر فقال‏:‏ لا شيء له ‏"‏ الحديث، وفي إسناده ضعف، وروينا في ‏"‏ فوائد أبي بكر بن أبي الحديد ‏"‏ بإسناد ضعيف، عن معاذ بن جبل أنه قال‏:‏ يا رسول الله كل بني سلمة يقاتل فمنهم من يقاتل رياء الحديث فلو صح لاحتمل أن يكون معاذ أيضا سأل عما سأل عنه الأعرابي، لأن سؤال معاذ خاص وسؤال الأعرابي عام، ومعاذ أيضا لا يقال له أعرابي فيحمل على التعدد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الرجل يقاتل للمغنم‏)‏ في رواية منصور عن أبي وائل الماضية في العلم ‏"‏ فقال ما القتال في سبيل الله‏؟‏ فإن أحدنا يقاتل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والرجل يقاتل للذكر‏)‏ أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة وهي رواية الأعمش عن أبي وائل الآتية في التوحيد حيث قال ‏"‏ ويقاتل شجاعة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والرجل يقاتل ليرى مكانه‏)‏ في رواية الأعمش ‏"‏ ويقاتل رياء ‏"‏ فمرجع الذي قبله إلى السمعة ومرجع هذا إلى الرياء وكلاهما مذموم، وزاد في رواية منصور والأعمش ‏"‏ ويقاتل حمية ‏"‏ أي لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، وزاد في رواية منصور ‏"‏ ويقاتل غضبا ‏"‏ أي لأجل حظ نفسه، ويحتمل أن يفسر القتال للحمية بدفع المضرة، والقتال غضبا بجلب المنفعة، فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء‏:‏ طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏)‏ المراد بكلمة الله دعوة الله إلى الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببا من الأسباب المذكورة أخل بذلك، ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمنا لا أصلا ومقصودا وبذلك صرح الطبري فقال‏:‏ إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال ‏"‏ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله‏؟‏ قال لا شيء له، فأعادها ثلاثا كل ذلك يقول‏:‏ لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه ‏"‏ ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معا على حد واحد فلا يخالف المرجح أولا، فتصير المراتب خمسا‏:‏ أن يقصد الشيئين معا، أو يقصد أحدهما صرفا أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمنا، وقد لا يحصل ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى، ودونه أن يقصدهما معا فهو محذور أيضا على ما دل عليه حديث أي أمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفا، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل ففيه مرتبتان أيضا، قال ابن أبي جمرة‏:‏ ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه ا هـ‏.‏

ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمنا لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال ‏"‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئا، فقال‏:‏ اللهم لا تكلهم إلي ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي إجابة النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله احتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل فتضمن الجواب وزيادة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله ‏"‏ فهو ‏"‏ راجعا إلى القتال الذي في ضمن قاتل أي فقتاله قتال في سبيل الله، واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه وطلب ثوابه وطلب دحض أعدائه وكلها متلازمة‏.‏

والحاصل مما ذكر أن القتال منشؤه القوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، ولا يكون في سبيل الله إلا الأول‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع فأفاد دفع الإلباس وزيادة الإفهام، وفيه بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، وأن الفضل الذي ورد في المجاهد يختص بمن ذكر، وقد تقدم بعض مباحثه في أواخر كتاب العلم‏.‏

وفيه جواز السؤال عن العلة وتقدم العلم على العمل، وفيه ذم الحرص على الدنيا وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة‏.‏

*3*باب مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من اغبرت قدماه في سبيل الله‏)‏ أي بيان ماله من الفضل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله عز وجل‏:‏ ‏(‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله - إلى قوله - إن الله لا يضيع أجر المحسنين‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ مناسبة الآية للترجمة أنه سبحانه وتعالى قال في الآية ‏(‏ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار‏)‏ وفي الآية ‏(‏إلا كتب لهم به عمل صالح‏)‏ قال‏:‏ ففسر صلى الله عليه وسلم العمل الصالح أن النار لا تمس من عمل بذلك، قال‏:‏ والمراد في سبيل الله جميع طاعاته ا هـ‏.‏

وهو كما قال، إلا أن المتبادر عند الإطلاق من لفظ سبيل الله الجهاد، وقد أورده المصنف في ‏"‏ فضل المشي إلى الجمعة ‏"‏ استعمالا للفظ في عمومه، ولفظه هناك ‏"‏ حرمه الله على النار ‏"‏ وقال ابن المنير‏:‏ مطابقة الآية من جهة أن الله أثابهم بخطواتهم وإن لم يباشروا قتالا، وكذلك دل الحديث على أن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار سواء باشر قتالا أم لا ا هـ‏.‏

ومن تمام المناسبة أن الوطء يتضمن المشي المؤثر لتغبير القدم، ولا سيما في ذلك الزمان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْسٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ قال أبو علي الجياني‏:‏ نسبه الأصيلي ابن منصور‏.‏

قلت‏:‏ وأخرجه الإسماعيلي من طريق إسحاق بن زيد الخطابي نزيل حران عن محمد بن المبارك المذكور، لكن زاد في آخر المتن قوله ‏"‏ فتمسها النار أبدا ‏"‏ فالظاهر أنه ابن منصور، ويؤيده أن أبا نعيم أخرجه من طريق الحسن بن سفيان عن إسحاق بن منصور، ويزيد المذكور في الإسناد بالزاي، وعباية بفتح المهملة، وأبو عبس بسكون الموحدة هو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما اغبرتا‏)‏ كذا في رواية المستملي بالتثنية وهو لغة، وللباقين ‏"‏ ما اغبرت ‏"‏ وهو الأفصح، زاد أحمد من حديث أبي هريرة ‏"‏ ساعة من نهار‏"‏‏.‏

وقوله ‏"‏فتمسه النار ‏"‏ بالنصب، والمعنى أن المس ينتفي بوجود الغبار المذكور، وفي ذلك إشارة إلى عظيم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مس الغبار للقدم يحرم عليها النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد وسعه‏؟‏ وللحديث شواهد‏:‏ منها ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء مرفوعا ‏"‏ من اغبرت قدماه في سبيل الله باعد الله منه النار مسيرة ألف عام للراكب المستعجل ‏"‏ وأخرج ابن حبان من حديث جابر أنه كان في غزاة فقال ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ فذكر نحو حديث الباب، قال‏:‏ فتواثب الناس عن دوابهم، فما رؤى أكثر ماشيا من ذلك اليوم‏.‏

*3*باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنْ الرَّأْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله‏)‏ قال ابن المنير‏:‏ ترجم بهذا وبالذي بعده دفعا لتوهم كراهية غسل الغبار ومسحه لكونه من جملة آثار الجهاد كما كره بعض السلف المسح بعد الوضوء‏.‏

قلت‏.‏

والفرق بينهما من جهة أن التنظيف مطلوب شرعا، والغبار أثر الجهاد وإذا انقضى فلا معنى لبقاء أثره‏.‏

وأما الوضوء فالمقصود به الصلاة فاستحب بقاء أثره حتى يحصل المقصود فافترق المسحان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ وَلِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ فَلَمَّا رَآنَا جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ فَقَالَ كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في قصة عمار في بناء المسجد، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في ‏"‏ باب التعاون في بناء المسجد ‏"‏ في أوائل الصلاة، وفيه ما يتعلق بقوله ‏"‏ فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما ‏"‏ والمراد منه هنا قوله ‏"‏ ومر به النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عن رأسه الغبار‏"‏‏.‏

*3*باب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الغسل بعد الحرب والغبار‏)‏ تقدم توجيهه في الباب الذي قبله، وذكر فيه حديث عائشة في اغتساله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الخندق، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في المغازي‏.‏

وقوله في هذه الرواية ‏"‏ ووضع ‏"‏ أي السلاح وصرح بذلك في رواية الأصيلي وغيره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ وَضَعْتَ السِّلَاحَ فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَيْنَ قَالَ هَا هُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَتْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد‏)‏ كذا للأكثر، ونسبه أبو ذر فقال ‏"‏ ابن سلام ‏"‏ وقوله ‏"‏ عصب ‏"‏ بفتح المهملتين والتخفيف أي أحاط به فصار عليه مثل العصابة‏.‏

*3*باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون - إلى قوله - وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق الأصيلي وكريمة الآيتين، ومعنى قوله ‏"‏ فضل قول الله ‏"‏ أي فضل من ورد فيه قول الله، وقد حذف الإسماعيلي لفظ فضل من الترجمة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلَاثِينَ غَدَاةً عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنَسٌ أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ

الشرح‏:‏

حديث أنس في قصة الذين قتلوا في بئر معونة أوردها مختصرة، وستأتي بتمامها في المغازي، وأشار بإيراد الآية إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأذكره هناك في آخره عند قوله ‏"‏ فأنزل فيهم بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، زاد عمر بن يونس عن إسحاق بن أبي طلحة فيه ‏"‏ فنسخ بعدما قرأناه زمانا وأنزل الله تعالى ‏(‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله‏)‏ الآية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ فَقِيلَ لِسُفْيَانَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ لَيْسَ هَذَا فِيهِ

الشرح‏:‏

حديث جابر ‏"‏ اصطبح ناس الخمر يوم أحد ثم قتلوا شهداء ‏"‏ سيأتي في المغازي أن والد جابر كان من جملة من أشار إليهم، قال ابن المنير‏:‏ مطابقته للترجمة فيه عسر، إلا أن يكون مراده أن الخمر التي شربوها يومئذ لم تضرهم لأن الله عز وجل أثنى عليهم بعد موتهم ورفع عنهم الخوف والحزن، وإنما كان ذلك لأنها كانت يومئذ مباحة‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن أن يكون أورده للإشارة إلى أحد الأقوال في سبب نزول الآية المترجم بها، فقد روى الترمذي من حديث جابر أيضا أن الله لما كلم والد جابر وتمنى أن يرجع إلى الدنيا ثم قال ‏"‏ يا رب بلغ من ورائي، فأنزل الله ‏(‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله‏)‏ الآية‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقيل لسفيان ‏"‏ من آخر ذلك اليوم ‏"‏ قال‏:‏ ليس هذا فيه‏)‏ أي أن في الحديث ‏"‏ فقتلوا شهداء من آخر ذلك اليوم ‏"‏ فأنكر ذلك سفيان، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق القواريري عن سفيان بهذه الزيادة ولكن بلفظ ‏"‏ اصطبح قوم الخمر أول النهار وقتلوا آخر النهار شهداء ‏"‏ فلعل سفيان كان نسيه ثم تذكر، وقد أخرجه المصنف في المغازي عن عبد الله بن محمد عن سفيان بدون الزيادة، وأخرجه في تفسير المائدة عن صدقة بن الفضل عن سفيان بإثباتها، وسيأتي بقية شرحه في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب ظِلِّ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ظل الملائكة على الشهيد‏)‏ ذكر فيه حديث جابر في قصة قتل أبيه، وسيأتي بيانه في غزوة أحد، وهو ظاهر فيما ترجم له، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب الجنائز‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقِيلَ ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو فَقَالَ لِمَ تَبْكِي أَوْ لَا تَبْكِي مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا قُلْتُ لِصَدَقَةَ أَفِيهِ حَتَّى رُفِعَ قَالَ رُبَّمَا قَالَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لصدقة‏)‏ القائل هو المصنف، وصدقة هو ابن الفضل شيخه فيه، وقد تقدم في الجنائز عن علي بن عبد الله وهو ابن المديني عن سفيان وفي آخره ‏"‏ حتى رفع ‏"‏ وكذلك رواه الحميدي وجماعة عن سفيان‏.‏

*3*باب تَمَنِّي الْمُجَاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا‏)‏ أورد فيه حديث قتادة ‏"‏ سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ

الشرح‏:‏

حديث قتادة ‏"‏ سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا ‏"‏ الحديث، وقد ورد بلفظ التمني وذلك فيما أخرجه النسائي والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله تعالى‏:‏ يا ابن آدم كيف وجدت منزلك‏؟‏ فيقول‏:‏ أي رب خير منزل، فيقول‏:‏ سل وثمنه، فيقول‏:‏ ما أسألك وأتمنى‏؟‏ أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات، لما رأى من فضل الشهادة ‏"‏ الحديث، ولمسلم من حديث ابن مسعود رفعه في الشهداء قال ‏"‏ فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال‏:‏ هل تشتهون شيئا‏؟‏ قالوا‏:‏ نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ‏"‏ ولابن أبي شيبة من مرسل سعيد بن جبير أن الخاطب بذلك حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث جابر قال ‏"‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أخبرك ما قال الله لأبيك‏؟‏ قال‏:‏ يا عبد الله تمن علي أعطك، قال‏:‏ يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال‏:‏ إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون‏"‏‏.‏

قول شعبة في الإسناد ‏(‏سمعت قتادة‏)‏ في رواية أبي خالد الأحمر عن شعبة عن قتادة وحميد كلاهما عن أنس أخرجه مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أحد‏)‏ ‏.‏

في رواية أبي خالد ‏"‏ ما من نفس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يدخل الجنة‏)‏ في رواية أبي خالد ‏"‏ لها عند الله خير‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وله ما على الأرض من شيء‏)‏ في رواية أبي خالد ‏"‏ وأن لها الدنيا وما فيها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما يرى من الكرامة‏)‏ في رواية أبي خالد ‏"‏ لما يرى من فضل الشهادة‏"‏، ولم يقل عشر مرات، وكأن أبا خالد ساقه على لفظ حميد والله أعلم‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة، قال‏:‏ وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد فلذلك عظم فيه الثواب‏.‏

*3*باب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ

وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الجنة تحت بارقة السيوف‏)‏ هو من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد تطلق البارقة ويراد بها نفس السيف فتكون الإضافة بيانية، وقد أورده بلفظ ‏"‏ تحت ظلال السيوف ‏"‏ وكأنه أشار بالترجمة إلى حديث عمار بن ياسر، فأخرج الطبراني بإسناد صحيح عن عمار بن ياسر أنه قال يوم صفين ‏"‏ الجنة تحت الأبارقة ‏"‏ كذا وقع فيه والصواب ‏"‏ البارقة ‏"‏ وهي السيوف اللامعة، وكذا وقع على الصواب في ترجمة عمار من طبقات ابن سعد، وروى سعيد بن منصور بإسناد رجاله ثقات من مرسل أبي عبد الرحمن الحبلي مرفوعا ‏"‏ الجنة تحت الأبارقة ‏"‏ ويمكن تخريجه على ما قاله الخطابي الأبارقة جمع إبريق وسمي السيف إبريقا فهو إفعيل من البريق، ويقال أبرق الرجل بسيفه إذا لمع به والبارقة اللمعان، قال ابن المنير‏:‏ كأن البخاري أراد أن السيوف لما كانت لها بارقة كان لها أيضا ظل، قال القرطبي‏:‏ وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الرجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه والحض على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين‏.‏

وقال ابن الجوزي، المراد أن الجنة تحصل بالجهاد‏.‏

والظلال جمع ظل وإذا تدانى الخصمان صار كل منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال المغيرة إلخ‏)‏ هو طرف من حديث طويل وصله المصنف بتمامه في الجزية، وقوله هنا ‏"‏ عن رسالة ربنا ‏"‏ ثبت للكشميهني وحده وهو كذلك في الطريق الموصولة، ويحتمل أن يكون حذف هنا اختصارا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عمر إلخ‏)‏ هو طرف من حديث سهل بن حنيف في قصة عمرة الحديبية، وسيأتي بتمامه موصولا في المغازي، وتقدمت الإشارة إليه في الشروط‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ تَابَعَهُ الْأُوَيْسِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن محمد‏)‏ هو الجعفي، وأبو إسحاق هو الفزاري وعمر بن عبيد الله أي ابن معمر هو التيمي وكان أميرا على حرب الخوارج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان كاتبه‏)‏ أي أن سالما كان كاتب عبد الله بن أبي أوفى‏.‏

قال ‏(‏كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى‏)‏ الضمير لعمر بن عبيد الله، قال الدار قطني في التتبع‏:‏ أخرجا حديث موسى بن عقبة عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله قال ‏"‏ كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته ‏"‏ الحديث‏.‏

وقال أبو النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى فهو حجة في رواية المكاتبة، وتعقب بأن شرط الرواية بالمكاتبة عند أهل الحديث أن تكون الرواية صادرة إلى المكتوب إليه، وابن أبي أوفى لم يكتب إلى سالم إنما كتب إلى عمر بن عبيد الله فعلى هذا تكون رواية سالم له عن عبد الله بن أبي أوفى من صور الوجادة، ويمكن أن يقال‏:‏ الظاهر أنه من رواية سالم عن مولاه عمر بن عبيد الله بقراءته عليه لأنه كان كاتبه أبي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه كتب إليه فيصير حينئذ من صور المكاتبة، وفيه تعقب على من صنف في رجال الصحيحين فإنهم لم يذكروا لعمر بن عبيد الله ترجمة، وقد ذكره ابن أبي حاتم وذكر له رواية عن بعض التابعين ولم يذكر فيه جرحا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واعلموا أن الجنة‏)‏ هكذا أورده هنا مختصرا، وذكر طرفا منه أيضا بهذا الإسناد بعد أبواب في ‏"‏ باب الصبر عند القتال ‏"‏ وأخرجه بعد أبواب كثيرة في ‏"‏ باب تأخير القتال حتى تزول الشمس ‏"‏ بهذا الإسناد مطولا، ثم أخرجه بعد أبواب أيضا مطولا من وجه آخر في النهي عن تمني لقاء العدو، ويأتي الكلام على شرحه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه الأويسي عن ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة‏)‏ قلت‏:‏ الأويسي هو عبد العزيز بن عبد الله أحد شيوخ البخاري، وقد حدث عنه بهذا الحديث موصولا خارج الصحيح، ورويناه في كتاب الجهاد لابن أبي عاصم قال‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري به، وقد رواه عمر بن شبة عن الأويسي فبين أن ذلك كان يوم الخندق‏.‏

قال المهلب‏:‏ في هذه الأحاديث جواز القول بأن قتلى المسلمين في الجنة، لكن على الإجمال لا على التعيين‏.‏

*3*باب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ

وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من طلب الولد للجهاد‏)‏ أي ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله فيحصل له بذلك أجر وإن لم يضع ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث إلخ‏)‏ وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق يحيى بن بكير عن الليث بهذا الإسناد، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى، ثم تعجلت فشرحته في ترجمة سليمان‏.‏